صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (37)
المنصور يخدع أبا مسلم
عندما قرر أبومسلم الخراساني الذهاب لأبي جعفر المنصور، كان قد وضع حياته رهينة في يد ألد أعدائه، وبالطبع كان من السذاجة لأبي مسلم أن يركن لأمان المنصور ووعده وعهده لأنه أدري الناس بوعود العباسيين لأعدائهم في بداية دولتهم، فقد حصل يزيد بن هبيرة (والي العراق لمروان آخر خليفة أموي) علي العهود والمواثيق التي ضرب بها العباسيون عرض الحائط.
وكان أبومسلم أول من أشار علي السفاح بعدم الوفاء لابن هبيرة وقتله فقال للسفاح: إن الطريق الذي فيه الحجارة يفسد، ولايصلح طريق فيه ابن هبيرة، فنال نفس المصير، لكن الفارق أن العباسيين قتلوا ابن هبيرة وهو ساجد لربه وأنعم بها من نهاية، أما أبومسلم فقد مزقوه شر تمزيق وهو يتحدث مع المنصور.
وفي إطار خطة المنصور لخداع أبي مسلم طلب من رموز البيت العباسي أن يستقبلوه ويرحبوا به مما أشاع في نفس أبي مسلم السكينة والأمان.
وكما جاء في تاريخ ابن الأثير، كتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه وسار نحوه واستخلف صديقه مالك بن الهيثم على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابي فإن أتاك مختومًا بنصف خاتم فأنا كتبته وإن أتاك بالخاتم كله فما ختمته.
وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان العراقية.
ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه، وألقاه إلى أبي أيوب وزيره فقرأه وقال له المنصور: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.
فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه.
وكان أبو أيوب من دهاة زمانه فدعا سلمة بن سعيد بن جابر، وقال له: هل عندك شكر فقال: نعم.
قال: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتمًا – وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر – وتجعل له النصف قال: نعم.
قال: كيف لي بهذه الولاية قال له أبو أيوب: تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن القي أمير المؤمنين فاستأذن له أبو أيوب في ذلك فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم، فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفس أبي مسلم وكان قبل ذلك كئيًبا حزينًا ولم يزل مسرورًا حتى قدم.
فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه فتلقاه بنو هاشم والناس ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يد الخليفة الذي أمره أن ينصرف ويستجم.
فلما كان الغد دعا المنصور صاحب شرطته عثمان بن نهيك وأربعةً من الحرس منهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه وتركهم خلف الرواق.
3 آلاف رجل كانوا مع أبي مسلم ولم يكن هذا الرقم صغيرا خاصة إذا وضعنا في الإعتبار أن أبا جعفر كان بعيدا عن الأنبار مقر خلافة العباسيين في بداية دولتهم، وأن حرس المنصور الموجود معه أقل من هذا الرقم بكثير لكن هيبة المنصور وحزمه وعدم تردده جعله لا يتواني عن المضي قدما في الطريق الذي اختطه لنفسه وهو لا حياة لأبي مسلم مهما كانت المبررات أو حتي التضحيات.
هي مغامرة بكل تأكيد لكن كتابة التاريخ لا تحتاج إلي شجاعة فقط وإنما إلي مغامرة أيضا في ظروف مفصلية وفرص نادرة، وكان المنصور يدرك جيدا أن عودة أبي مسلم إلي خراسان ستصعب المهمة عليه كثيرا.
وفي اليوم التالي أرسل المنصور إلى أبي مسلم يستدعيه وكان عنده ولي عهده عيسى بن موسى يتغدى فدخل على المنصور لتبدأ حملة التقريع والتأنيب قبل التقطيع والتمزيق.
وهذا حديث الحلقة المقبلة إن شاء الله.